فما سبب انخفاض هذه العائدات للمرة الأولى بهذا الشكل؟
للإجابة على هذا السؤال لابد من الرجوع قليلا الى الوراء؛ فلسنوات مضت وشركة أبل تحقق عوائد وأرباحاً فلكية مهدت لها الطريق لاعتلاء عرش الاقتصاد العالمي كأكبر شركة من حيث القيمة السوقية في العالم تجاوزت النصف ترليون دولار يوماً ما.
لم يكن ما تحقق لأبل من نجاحات محض صدفة بل نتيجة حتمية لسلسة من الابتكارات التي تبلورت في صورة منتجات غيرت الكثير من معالم الحياة ونمط المعيشة في عالمنا اليوم.
أبل لم تبتكر شيئاً جديداً وكل ما قدمته موجود من قبل بصورة أو بأخرى!
هكذا يقول الكثير من خصومها وهي بلا شك كلمة حق يُراد بها بطلان كل ما قدمته أبل من ثورة تقنية، دون تفريق بين النظرية والتطبيق؛ ففي عالم الإلكترون تظل التقنية حبيسة المفهوم النظري حتى تقدمه منتجاً ملموساً يعايشه الناس في حياتهم؛ فواجهة المستخدم الرسومية (GUI) لم يعرفها العالم إلا من أبل، ومشغلات الموسيقى الرقمية بدأ تاريخها الفعلي بولادة (الآيبود)، والشاشات التي تعمل باللمس لم تكن قبل (الآيفون) شيئا مذكورا، وكذلك هي الأوامر الصوتية التي كانت تعاني من بطء الفهم وقلة الاستيعاب حتى نطقت (سيري) بلسان (رقمي) مبين!!
الوثبة الكبرى والانطلاقة الحقيقية لأبل كانت في عام 2007 عندما قدمت تحفتها الأسطورية (آيفون) الذي كان ثورة تقنية بكل ما للكلمة من معنى؛ فمن شاشة متعددة اللمس لم يرَ العالم لها من قبل مثيلا، إلى نظام تشغيل قدم تجربة استخدام غير معهودة، إلى تصميم مذهل وجودة صنع فاقت كل ما كان سائداً وقتها، ليستمر تطويره عاماً بعد آخر بإضافة الكثير من الميزات بعضها كان نقطة تحول كشاشة الريتنا (سنة 2010)، و البصمة (سنة 2013)، وبعضها كان شكلياً كإعادة التصميم وتعدد الأحجام والألوان.وهكذا تطور (الآيفون)،وتضاعفت مبيعاته حتى أصبح مصدر الدخل الرئيسي لأبل بنسبة تفوق 65%، كما بات مقياسا معياريا لصناعة الهواتف الذكية لدى الشركات الأخرى.
النقلة النوعية للآيفون حدثت في عام 2014 عندما قدمت أبل لأول مرة (آيفونها) بحجمين مختلفين 4.7 للموديل 6 و 5.5 للموديل 6PLUS مما ساهم في رفع مبيعاته بشكل غير مسبوق، وفي العام الذي تلاه (2015) ظهرت النسخة المحسنة منه 6S و 6S Plus بتحسينات طفيفة شملت المعالج والكاميرا وتقنية 3D Toutch، لكن هذا الموديل تحديداً كان سبباً رئيسياً للتراجع الإجمالي للعائدات لانخفاض مبيعاته بنسبة 16% لأنه لم يقدم ما يغري للترقية له من جهة ،ومن جهة أخرى يتطلع الكثير من محبي الآيفون للإصدار السابع الجديد كليا والمتوقع صدوره في الربع الأخير من هذا العام.
وكونه العمودَ الفقري لشركة أبل فإن أي هزة للآيفون حتما ستهز أركان الشركة بالكامل.
أما الآيباد الذي ظهر لأول مرة في سنة (2010) -كنموذج جديد لما ينبغي أن تكون عليه أجهرة الحواسيب اللوحية- فقد انخفضت مبيعاته بشكل كبير في العامين الأخيرين حتى بلغت نسبة 19% في الربع الأول من هذا العام؛ بسبب تراجع سوق الأجهزة اللوحية بشكل عام بعد ظهور فئة (الفابلت) التي اكتسحت السوق، وقد حاولت أبل أن تتدارك الوضع باصدار نسخة (الآيباد برو) الذي يبدو أنه لم ولن يفلح في ذلك ربما لحجمه الكبير جداً (12.9)، وربما لسعره المرتفع المقارب لأسعار أجهزة الماك بوك، وربما للسببين معاً.
منتجات الماك بنوعيها المكتبي والمحمول -كانت ولا تزال رمزاً لاهتمام أبل بأدق تفاصيل الجودة؛ وانعكاساً لذوق تصميمي رفيع تفردت به أبل لسنوات- لم يطرأ عليها أي تحديث جذري من فترة طويلة وهذا أدى إلى تراجع مبيعاتها بنسبة 12%(ويستثنى من ذلك الماك بوك الذي أتى العام الماضي بتصميم متفرد وبتقنيات حديثة كلوحة المفاتيح الجديدة كليا وتقنية (Force Touch) الخاصة بلوحة التعقب.)
سلسلة الخدمات المبتكرة كمتجر الموسيقى والافلام (iTunes) ،ومتجر التطبيقات والكتب؛ والخدمة السحابية الرائدة (iCloud) ارتفعت عائداتها بنسبة 20%.
في العامين الأخيرين خفتت جذوة الابتكار لدى أبل بشكل ملحوظ فلم تقدم فتحا عظيما في أي من منتجاتها بما في ذلك ساعتها التي قدمتها (على طريقتها الخاصة) بشكل يوحي وكأنها ستؤقت لتاريخ جديد لصناعة الساعات على غرار ما فعله الآيفون؛ غيرَ أن عقاربها يبدو أنها تسير أبطأ مما خُطط له؛ فما زالت مبيعاتها غامضة ولا زال الكثير من المستهلكين ينظر لها وللساعات الذكية بشكل عام بأنها لم تنضج بعد وبالتالي فهي مجرد (اكسسوار) ترفيٍّ أكثر منها ضرورة ملحة.
نضوج السوق وشدة المنافسة وتعدد المنافسين سبب جوهري آخر لتراجع مبيعات أبل لأنها لم تعد اللاعب المتحكم في السوق كما كانت عليه سابقاً؛ فقد فهم الآخرون اللعبة جيداً واستوعبوا قوانينها، وما عادت شركة سامسونج الخصمَ العنيدَ والوحيدَ اليوم؛ فقد استيقظ المارد الصيني وانطلق من قمقمه نافثاً لهب المنافسة في كل اتجاه عبر (هواوي ) و(شاومي) و(لينوفو) التي قدمت منتجات ذات أسعار منافسة جداً بتصاميم رائعة ومواصفات عالية لا تقل عما تقدمه أبل التي تطمح في تسلق (سوق) الصين العظيم!
نظام iOS أصبح هو الاخر يعاني منذ اصداره السابع من بعض المشاكل في الاستقرار والأداء مقابل تطور ملحوظ لمنافسه الروبوت الأخضر الذي شب عن الطوق وبلغ أشده ولم يعد في سن الفطام كما كان قبل سنوات قليلة.
هكذا كانت تلك العوامل بنسب متفاوتة سبباً في تراجع عائدات أبل وتقلص أرباحها الفصلية، وسيستمر هذا التراجع كما هو متوقع في ما تبقى من هذا العام، على أن تعاود وتيرة الارتفاعات في الأعوام القادمة بصورة قد تكون أقوى مما كانت عليه فما زال أمام أبل أبواب تقنية لم تطرقها بعد كانترنت الأشياء، وتقنيات الواقع المعزز، والافتراضي؛ ومتى ما دلفت (أبل) هذه الأبواب فستأتي -كعادتها- بما لم تأتِ به الأوائلُ! ومن يدري فربما تتخلى عن عنادها وتدمج جهازيها الآيباد برو والماك بوك في جهاز الأحلام المنتظر: (الماك باد) ولها في غريمتها مايكروسوفت أسوة حسنة بنجاح تحفتها الباذخة سرفس بوك الذي جمع بين قوة وأداء الحوسبة المكتبية الكاملة ورشاقة الحوسبة اللوحية الفاتنة.
أبل ستعود! ولابد أن تعود!! لأنها تعي جيدا أسطورة نوكيا التي تحولت إلى (أحفورة) بعد ما كانت ملء السمع والبصر يوماً ما كانت أبل تصارع فيه من أجل البقاء!!
وأجزم أن (محركي) أشرعة أبل يدركون إتجاه الرياح التي قد تكون عاتية، ويعلمون جيدا العلاقة العكسية الخطرة بين شغف الإبتكار وشبح الإنهيار!
ملاحظة : لم يتم التطرق لأحدث منتجين من أبل وهما iPhine SE و iPad Pro 7.9 لحداثة اطلاقهما في السوق مؤخرا.